بمناسبة الاحتفال بعيد النيروز ، بداية التقويم القبطى لسنة الشهداء ، نتحدّث اليوم عن الاستشهاد والشهداء فى حياة الكنيسة والمسيحيين .
يبدأ تقويم الشهداء ببداية حكم الامبراطور ديوقليديانوس . وقد تميّز حكمه باضطهاد شرس دموى للمسيحيين . مما جعل أقباط مصر يحدّدون تقويمهم ببداية حكم هذا الامبراطور ، الذى يوافق 29 أغسطس 284 حسب التقويم الغريغورى المُصحَّح ، و 11 سبتمبر حسب التقويم اليوليانى غير المُصحَّح .
الاستشهاد هو الشهادة للإيمان بالمسيح ، بأمانة وشجاعة ، تصلان إلى حد التضحية بالحياة ، فى رفض مطلق للتفريط فى الإيمان بالمسيح ابن الله . يحاول المضطهـِدون خنق صوت الاعتراف بالإيمان والشهادة للمسيح ، ولكنهم يفشلون ، وتتحوّل دماء الشهداء إلى شهادة أعلى وأبلغ من الكلمة ، وإلى زرع وفير للمسيحيين ، كما يقول ترتليانوس … والمحبة الأمينة للمسيح ، التى دفعت الشهداء إلى بذل ذاتهم رخيصة من أجله ، تواصل عملها بعد موتهم . فإذا كان من الممكن إسكات صوت الشهداء بقتلهم ، فلا يمكن إيقاف البَركة والنعمة التى تتدفـّق كالنبع من تضحيتهم ودمائهم . فلنتذكـّر اسطفانوس أول الشهداء ، لقد كان شاول الذى راقب عملية رجمه ، أول من فاضت عليه نعمة دماء الشهيد ، فتحوّل إلى بولس الذى بذل نفسه راضيا من أجل المسيح ، بعد أن بشـّر به اليهود والأمم .
الشهداء هم شهود ونماذج لنا . سواء كانوا علماء فى الكتب المقدّسة أو فى تعليم الإيمان ، وسواء كانوا مؤمنين بسطاء ، كانوا راسخين فى الإيمان بأن محبة المسيح والأمانة له تفوق كل شىء ، حتى حياتـَهم نفسها . " الحياة عندى هى المسيح ، والموت ربح " ( فيلبى 1 : 21 ) … لذلك يستحقون أن يسمعموا الرب يدعوهم : " تعالوا ، يا من باركهم أبى ، رثوا الملكوت الذى هيّأه لكم منذ إنشاء العالم " ( متى 25 : 34 ) … الشهداء هم كوكبة الشهود الذين يرسمون لنا طريق السير على خـُطى المسيح : تقول الرسالة إلى العبرانيين " أما ونحن محاطون بسحابة كثيفة من الشهود ، فعلينا أن نلقى عنا كل ثقل وكل خطيئة عالقة بنا ، فنجرى بعزم فى ميدان الجهاد الممتد أمامنا ، ناظرين إلى رأس إيمانننا ومكمّله، يسوع الذى تحمّل الصليب ، مستخفا بالعار، من أجل الفرح الذى ينتظره ، فجلس عن يمين عرش الله " ( عبرانيين 12 : 1 – 2 ) .
الشهداء هم أبطال الإيمان فى كل العصور . عن أبطال العهد القديم تقول نفس الرسالة : " احتمل بعضهم التعذيب ، ورفضوا النجاة فى سبيل القيامة إلى حياة أفضل ، وقاسى آخرون الهزء والجلد ، بل القيود والسجن ، ورُجموا ونـُشروا وقـُتلوا بحد السيف ، وتشرّدوا لابسين جلود الغنم والماعز ، محرومين مقهورين مظلومين ، لا يستحقـّهم العالم " ( عبرانيين 11 : 35 – 38 ) .
وأشهر شهداء العهد القديم هم الإخوة المكابيون السبعة ، وأمهم التى كانت تراهم يُعذَّبون ويموتون أمامها واحدا بعد الآخر ، وهى تشجّهم على الأمانة لله وعدم مخالفة الشريعة . لقد أجابوا الملك : " لن ينفعَك هذا كله ، فنحن نموت ولا نحيد عن شريعة آبائنا .. أيها المجرم ، بإمكانك أن تأخذ منا حياتنا هذه ، ولكن مَلك العالمين سيقيمنا لحياة أبدية ، إذا متنا فى سبيل شريعته .. خير للإنسان أن يُقتل بأيدى الناس، آمِلا أن يقيمه الله من الموت " ( 2 مكابيين 7 : 2و9و14 ) . وعندما جاء الدور على آخر واحد ، وهو الابن الأصغر ، قالت له الأم : " لا تخـَف من هذا الملك السفـّاح ، وكن شجاعا كإخوتك ورحِّب بالموت ، لألقاك معهم برحمة الله " (7 : 29 ) .
أما العهد الجديد فهو تاريخ مستمر ومتواصل من الشهداء ، أبطال الإيمان ، تاريخ لم يتوقف ولن يتوقف حتى نهاية الأزمنة . قال القديس أغسطينوس : " جميع الأزمنة هى أزمنة استشهاد " ( العظة 6 ) … ألم يقل السيد المسيح صراحة لتلاميذه : " ما كان خادمٌ أعظمَ من سيّده . فإذا اضطهدونى يضطهدونكم .. قلت لكم هذا الكلام لئلا يضعفَ إيمانكم . سيطردونكم من المجامع ، بل تجىء ساعة يظن فيها من يقتلكم أنه يؤدّى فريضة لله " ( يوحنا 15 : 20 ، 16 : 1 – 2 ) …. لأنه " لا بدّ أن نجتاز كثيرا من الضيقات لندخل ملكوت الله " ( أعمال 14 : 22 ).
تأسّست المسيحية على الاستشهاد . فالمسيح هو الشهيد الأعظم . والقديس اسطفانوس هو أول شهيد بعده ( أعمال 7 ) . ثم تبعه القديس يعقوب الكبير أخو يوحنا ( اعمال 12 : 1 – 2 ) . ويخبرنا التاريخ القديم أن جميع الرسل ماتوا شهداء ، باستثناء القديس يوحنا الحبيب … ومن بعد زمن الرسل ، استمر الاستشهاد علامة مميزة للمسيحية والمسيحيين ، فى جميع العصور والبلاد . وها نحن فى مصر نحدّد تقويمنا بعصر الشهداء ، كما قلنا . ولا نظن أن عصر قسطنطين ، فى الجيل الرابع ، كان فصلَ الختام للاستشهاد والشهداء . لقد استمر وهو مستمر حتى اليوم … فأخبار الشهداء الذين يقاسون العذاب والقتل من أجل إيمانهم المسيحى لا تتوقف . وأقربها استشهاد الكثيرين فى العراق ، مثل الأب راغد غـَنـّى والشمامسة الثلاثة المرافقين له ، والمطران بولس رحّو ، وغيرهم عديدون من اكليروس وعلمانيين … وفى الهند والصين وباكستان وغيرها .
والاستشهاد دعوة إلى تجديد القلب . لماذا يقبل الشهداء عن طيب خاطر التضحية بحياتهم ، ويرحّبون بالموت من أجل الأمانة للمسيح ؟ لأنهم يؤمنون بما يعلنه بولس الرسول : " أما نحن فوطننا فى السماء ، ومنها ننتظر بشوق مجىءَ مخلصنا الرب يسوع المسيح . فهو الذى يبدّل جسدنا الوضيع ، فيجعله على صورة جسده المجيد ، بما له من قدرة يُخضِع بها كل شىء " ( فيلبى 3 : 20 – 21 ) .
وهذا التحوّل هو دعوة لنا إلى تجديد القلب والحياة ، منذ الآن . فإذا كان تبديل الجسد سيتم فى آخر الأزمنة بقيامة الأجساد ، فإن تجديد القلب يجب أن يتم منذ الآن ، لأنه الشرط للشركة مع الأبرار . والشهداء فى كل زمان ، شهداء الأمس وشهداء اليوم ، يذكّروننا بذلك ويدعوننا إليه . " إعتبروا بحياتهم وموتهم ، واقتدوا بإيمانهم " (عبرانيين 13 : 7 ) .
وإذا سألنا كيف يتم التجدّد ؟ نجيب بأن نتبع المسيح فى حياته وفى موته. بأن نترك روحه القدّوس يبدّل أرواحنا ونفوسنا لنقبل كلمته ونعمل بها . بأن يكون طعامنا أن نعمل بإرادة الله . بأن نحب القريب مثلما أحبنا يسوع ، حتى التضحية بحياتنا من أجل الآخرين . بأن نعطى دون ان نطلب أو ننتظر شيئا . بأن نقتدى بالمسيح : نعيش ونحن نحب ، ونموت ونحن نغفر . هذا هو الاستشهاد اليومى ، الذى يلزم أن نعيشه باستمرار . إنه السير على طريق القداسة .
وطريق القداسة هو بذل الذات من أجل المسيح : " من أراد أن يتبعَنى، فلينكرْ نفسه ويحملْ صليبه ويتبعْنى . لأن الذى يريد أن يخلـّص حياته يخسرها . ولكن الذى يخسر حياته من أجلى ومن أجل الإنجيل يخلـّصها " ( مرقس 8 : 34 – 35 ) . وهذا الطريق هو دعوتنا المسيحية . فالاستشهاد ، قبل أن يكون سفك دم ، هو شهادة يومية … يقول القديس بولس : " كل من أراد أن يحيا فى المسيح يسوع حياة التقوى ، أصابه الاضطهاد " ( 2 تيموثاوس 3 : 12 ) . نعم ، فالمسيحى الأمين على إيمانه ، والذى يريد أن يشهد للمسيح وللإنجيل بحياته ومثاله ، آجلا أو عاجلا لا بد أن يلاقى المعارضة والضيق . علينا أن نتساءل : هل أنا شاهد ، كما طلب منى المسيح " وتكونون لى شهودا حتى أقاصى الأرض " (أعمال 1 : 8 ) ؟ هل أنا للمسيح " رائحة ذكية " ( 2 كورنثوس 2 : 15 ) ؟
فالحياة المسيحية استشهاد يمتد طوال الحياة ، فى الشهادة اليومية . وهذه الشهادة هى الحياة فى محبة الله والمسيح . بالعماد ، نحن مدعوون إلى هذه الحياة . الاستشهاد هو أولا حياة الإنجيل ، إعلان بشارة حب الله وحب القريب فى حياتنا اليومية . من لا يعيش هذه الشهادة اليومية ، لا يقدر أن يعيش الاستشهاد الأعظم ، إذا شاء الله أن يكون من نصيبه ، فيفقدَ كل ما بناه كما يحترق القش فى النار … الحياة المسيحية تدريب مستمر على الاستشهاد ، واستعداد دائم له . وهذا ما يتم بمقاومة الخطيئة والشر فى حياتنا ، وبالتسلح بالفضيلة والتقوى ، وبأن نتدرّب على أن نحمل كل يوم صليب الصعوبات والتضحيات ، ونتبع يسوع بحبّ وبأمانة وشجاعة . ونحن نحمل صليب يسوع أيضا ، عندما نعيش محبة القريب ببذل وسخاء ، فنخدمُه ، ونقدّم له مما عندنا ، ونتعامل معه بتواضع ووداعة . وبهذا الاستشهاد الأصغر نتدرّب ونستعد للاستشهاد الكبير .
ما الذى نتعلمه من الشهداء ؟
- نتعلم منهم المحبة المطلقة للسيد المسيح : " من جاء إليَّ وما أحبّنى أكثر من حبه لأبيه وأمه ، وامرأته وأولاده ، وإخوته وأخواته ، بل أكثر من حبّه لنفسه ، لا يقدر أن يكون تلميذا لى " ( لوقا 14 : 26 ) .
- نتعلم منهم الأمانة حتى النهاية : يقول كتاب الرؤيا : " لا تخـَف مما ينتظرك من الآلام . فسيُلقى إبليسُ بعضَكم فى السجن ليمتحنكم ، فتعانون الضيق .. كن أمينا حتى الموت ، وأنا أعطيك إكليل الحياة " ( رؤيا 2 : 10 ) .
- نتعلم منهم الصبر والثبات فى الضيق والاضطهاد : يقول كتاب الرؤيا أيضا : "لأنك صبرت كما أوصيتك ، فسأحميك فى ساعة المحنة التى ستنقضّ على العالم كله ، لتمتحنَ سكان الأرض . سأجىءُ فى القريب العاجل ، فاحتفظ انت بما عندك ، لئلا يسلبَ أحد إكليلك " ( رؤيا 3 : 10 – 11 ) .
- نتعلم منهم رجاء المجد : بقول يوحنا أيضا فى رؤياه : " ورأيت نفوس الذين سقطوا قتلى ، فى سبيل الشهادة ليسوع ، وسبيل كلمة الله ، والذين ما سجدوا للوحش ولصورته .. فعاشوا وملكوا مع المسيح " ( رؤيا 19 : 4 ) .
وختاما نتضرع إلى أمنا العذراء مريم ، سلطانة الشهداء ، أن تساعدنا على أن نصغى إلى ابنها يسوع ، وأن نتبعه بشجاعة . فهى قد رافقته طوال حياته الأرضية، وبقيت أمينة له حتى آخر لحظة عند الصليب . فنطلب إليها أن تعلـّمنا أن نبقى له أمناء فى كل وقت ، وأن تهبنا القوة حتى لا نضعفَ فى أوقات الشدّة والضيق ، وأن نقتدى بالشهداء الذين بذلوا ويبذلون حياتهم أمانة ً للإيمان . يا سلطانة الشهداء ، صلى لأجلنا . آمين .