ميلاد السيدة العذراء والدة الإله الكلية القداسة ولدت من أبوين هرمين عاقرين في مدينة الناصرة الواقعة على منحدر الجبل على مسافة ثلاثة أيام من أورشليم، ولم يكن في الجليل كله مدينة اقل أهمية من الناصرة، حتى أن اليهود عندما سمعوا بأن يسوع النبي العظيم قد ظهر منها قالوا: "هل يمكن أن يخرج من الناصرة شيء صالح؟.."
ووفقاً لنبوءات الأنبياء كان ينبغي أن ينشأ مخلص العالم الموعود به من قبيلة داود الملك، ولكن سلالاته كانوا قد أضاعوا حقوقهم منذ زمن السبي البابلي، ولما عظمت قبيلة المكابيين تقلص امتياز قبيلة داود بالمرة فباتت على مستوى واحد مع عامة الناس.
ولما أفضى صولجان الملك في الوقت الموقوت بالأنبياء إلى هيرودس الأجنبي، واستولت مملكة روما الحديدية الساحقة لكل شيء، وبدأ الانحطاط العام في الأدب والدين، عرف اليهود أن أسابيع النبي دانيال قد اقتربت من النهاية فأخذوا ينتظرون بفارغ الصبر ظهور ماسيا (المسيح) راجين أن يروا فيه ملكاً أرضياً فاتحاً عظيماً محرراً لهم من النير الأجنبي ومسلطاً إياهم على غيرهم من الأمم.
وفي مدينة الناصرة كان يعيش زوجان هما يواكيم وحنة، فيواكيم الصديق القديس نشأ من سبط يهوذا من نسل الملك والنبي داود، فأبوه هو فاربافير من سلالة ناثان بن داود، وأما حنة فهي ابنة الكاهن متان من قبيلة هارون وكان لها أختان هما مريم وصوفيا، وقد تزوجت مريم في بيت لحم وولدت صالومي، وتزوجت صوفيا في بيت لحم أيضاً وولدت أليصابات أم النبي يوحنا المعمدان، وتزوجت أختهما حنة وولدت مريم العذراء أم الإله في الناصرة، وبناء على نقاوة سيرة هذين الزوجين يواكيم وحنة وقداستهما وإحسانهما استحقا أن يكونا أبوي والدة الإله مريم العذراء التي هي أقدس من جميع القديسين وأطهر من الشاروبيم، فقد كانا بارين أمام الله نقيي القلب محافظين على وصاياه وقد اشتهرا عند الجميع بتواضعهما كثيراً وقد مضى على زواجهما خمسون سنة فطعنا كلاهما في شيخوخة مسنة ولم يرزقا نسلاً، فبرح بهما الحزن حتى استأصل منهما الرجاء بأن يكونا من أجداد المسيح الموعود به، ثم اشتدت وطأته عليهما بسبب احتقار مواطنيهما وإهاناتهم لهما حسب عادة ذلك الزمان، لأن العاقرين في نظرهم هما خاطئين أمام الرب فلم يرزقهما نسلاً، وعارين على أمتهما.
حياتهما كانت طافحة بالمحبة لله والشفقة على القريب، فكانا يفرزان كل سنة ثلثي دخلهما ويقدمان الثلث إلى هيكل الرب ويوزعان الآخر على الفقراء، وأما الثالث فيبقيانه لحاجاتهما، وكانا سعيدين في حياتهما هذه، إلا أن العقر كان يفعم قلبيهما يأساً وحزناً وبؤساً، لأن ذرية داود كانت قد أعطيت رجاءً لأن تكون وسائل خلاص الجنس البشري بميلاد ماسيا المخلص الموعود به منها.
لقد كابدا من عار العقر مدة حياتهما الزوجية الطويلة، وكان ليواكيم الحق بموجب الشريعة الفريسية أن يقاضي حنة بالطلاق بسبب عقرها، إلا انه وهو الرجل الصدّيق قد أحب امرأته حنة واحترمها لأجل وداعتها الفائقة وفضائلها ولم يرد أن يفارقها، فعانيا كلاهما ثقل الامتحان باكتئاب قلب تنزه عن التذمر واستمرا يعيشان في الصوم والصلاة والإحسان ويشدد احدهما الآخر بمحبة متبادلة، والأمل بأن الله قادر أن يرحم عباده مالئ قلبيهما.
ومن عادتهما أن يزورا أورشليم في الأعياد العظيمة، ففي عيد تجديد الهيكل جاء يواكيم مع بعض مواطنيه ليقدم فيه قرابينه فرفضها رئيس الكهنة ايساخر قائلاً له:
"أنت غير مستحق لأن تُقبل منك قرابين لأنك غير مثمر، فلا ريب في انك لم تنل بركة الله بسبب خطاياك الخفية"
وقال له رجل من سبط راؤبين:
"لماذا تريد أن تقدم قرابينك قبلي ؟..أفلا تعلم انك غير مستحق لأن تقدم معنا قرابين لأنك لم تقم ذرية في إسرائيل"
فثقل على يواكيم أن يسمع هذه الملامات وخجل ولم يرجع إلى بيته بل هام على وجهه إلى البرية مغتماً جداً وانصرف إلى رعاية قطيع غنمه وهو يبكي العقم والعار، هناك بكى الشيخ البار وصام وصلى أربعين يوماً ناقعاً اكتئابه بدموع الاستعطاف والدعاء إلى الله ليرفع عنه العار والتبكيت، ويمنحه ولداً في شيخوخته وطالباً منه الرحمة الإلهية والعزاء الذي ناله صفيه إبراهيم وقال:
"لستُ أذوق طعاماً ولا أعود إلى بيتي، فدموعي هي طعامي والبرية هي بيتي حتى يستمع لي الرب"
وفي الوقت ذاته عرفت حنة بإهانة زوجها وبأنه قد هجرها إلى البرية، فسالت دموع عينها سخية ومضت إلى البستان إخفاءً لحزنها عن أهل البيت، وبينما كانت جالسة تبكي تحت شجرة الغار وتصلي بإيمان لا يتزعزع ليجعل الرب القادر على كل شيء غير الممكن ممكناً، وإذ رفعت عينيها في ذلك الحين إلى السماء، وشاهدت من بين أغصان الغار عشاً لأفراخ العصافير عارية، فزادت دموعها غزارة وعظمت صلاة التشكي في قلبها فهتفت قائلة:
"ويلي أنا العاقر الوحيدة الذليلة بين جميع النساء، فبماذا يمكن أن أشبّه ذاتي ؟.. إني لا استطيع أن أشبه نفسي لا بطيور السماء ولا بوحوش الأرض لأنها تقدم لك أيها الرب ثمرتها وتتعزى بأولادها، أما أنا فمحرومة من هذا السرور بل ولا اقدر أن أشبه نفسي بالأرض لأنها بنباتها وأثمارها تباركك، أما أنا فإني الوحيدة غير المثمرة على الأرض وكصحراء بلا ماء، بلا حياة ، وبلا نبات، فويلي أيها الرب انظر إليَّ واستمع صلاتي يا مَنْ وهبتَ سارة ابناً في شيخوختها المتناهية، وفتحت رحم حنة أم صموئيل، افتح رحمي واجعلني أنا العاقر مثمرة حتى نقدم مَنْ ألده نذيراً لك ممجدين رحمتك".
فظهر أمامها فجأة ملاك الرب وقال لها:
"يا حنة، إن صلاتك قد سُمعت، وتنهداتك قد اخترقت السحاب، ودموعك قد بلغت عرش الرب، فأنتِ ستحملين وتلدين بنتاً فائقة البركات، لأجلها تتبارك قبائل الأرض كلها، وبها يُمنح الخلاص للعالم أجمع، وتُسمى مريــم".
فسجدت حنة للرب وهتفت وهي ممتلئة فرحاً تقوياً:
"لَعَمْرُ الرب الإله، إنني إذا رزقتُ ابنة نذرتها لخدمة الرب، فلتخدمنّه ليلاً ونهاراً مادحة اسمه القدوس"
وأمر الملاك حنة بأن تذهب إلى أورشليم بعد أن تنبأ لها بأنها ستلتقي بزوجها عند الباب الذهبي، فأسرعت وهي تلفظ هذا النذر إلى أورشليم لتحمد العلي وتشكره في الهيكل على رحمته الإلهية.
وفي الوقت ذاته ظهر الملاك ليواكيم الصدّيق وهو واقف في البرية يصلي وقال له:
"يا يواكيم، إن الله قد سمع صلاتك، فستحمل امرأتك حنة وتلد لك ابنة يحبو ميلادها العالم كله بالسرور، وهاك آية فاذهب إلى الهيكل في أورشليم فتلاقي عند الباب الذهبي زوجتك حنة التي بشرتها أنا بهذا".
فلما التقيا قدما معاً قربان حمد في الهيكل، وعادا إلى بيتهما وإيمانهما وطيد بأنهما سينالان ما وعدهما به الرب فحملت حنة في اليوم التاسع من كانون الأول وولدت في اليوم الثامن من أيلول مريم الفائقة النقاوة والبركات بدء خلاصنا وشفيعتنا التي فرحت بميلادها السماء والأرض، وقدم يواكيم إلى الله تقادم عظيمة وقرابين وضحايا، ونال بركة رئيس الكهنة والكهنة واللاويين والشعب، وهيأ وليمة حضروها وباركوا الله مبتهجين.
لم ترد في الإنجيل رواية ميلاد العذراء مريم، وإنما حُفظت عنه تواترات مسطرة في مؤلفات القديس ابيفانيوس أسقف قبرص، ومؤلفات المغبوط ايرونيموس وغيرهما.